فصل: فَصْلٌ: صِفَاتُ الشَّاهِدِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: وَلَايَةُ الْوَلَاءِ:

وَأَمَّا وَلَايَةُ الْوَلَاءِ فَسَبَبُ ثُبُوتِهَا الْوَلَاءُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» ثُمَّ النَّسَبُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْوَلَايَةِ كَذَا الْوَلَاءُ وَالْوَلَاءُ نَوْعَانِ: وَلَاءُ عَتَاقَةٍ، وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ، أَمَّا وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ: فَوَلَايَةُ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ نَوْعَانِ: وَلَايَةُ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ، وَوَلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَايَةُ اسْتِبْدَادٍ وَوَلَايَةُ شَرِكَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي وَلَايَةِ الْقَرَابَةِ.
وَشَرْطُ ثُبُوتِ هَذِهِ الْوَلَايَةِ مَا هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ تِلْكَ الْوَلَايَةِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْوَلَايَةَ اخْتَصَّتْ بِشَرْطٍ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ فَإِنْ كَانَ فَلَا وَلَايَةَ لِلْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ لِأَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ عَصَبَةٌ مِنْ جِهَةِ الْقُرْبَةِ فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ سَوَاءً كَانَ الْمُعْتَقُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى.
وَأَمَّا مَوْلَى الْمُوَالَاةِ فَلَهُ وَلَايَةُ التَّزْوِيجِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ وَانْعِدَامِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْوَرَثَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ وَلَايَةُ التَّزْوِيجِ أَصْلًا وَرَأْسًا؛ لِأَنَّ الْعُصُوبَة شَرْطٌ عِنْدَهُمَا وَلَمْ تُوجَدْ.

.فَصْلٌ: وَلَايَةُ الْإِمَامَةِ:

وَأَمَّا وَلَايَةُ الْإِمَامَةِ فَسَبَبُهَا الْإِمَامَةُ وَوَلَايَةُ الْإِمَامَةِ نَوْعَانِ أَيْضًا كَوَلَايَةِ الْقَرَابَةِ وَشَرْطُهَا مَا هُوَ شَرْطُ تِلْكَ الْوَلَايَةِ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا وَلَهَا شَرْطَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ: أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ وَلِيٌّ أَصْلًا لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» وَالثَّانِي يَخُصُّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ وَلَايَةُ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ أَوْ وَلَايَةُ الشَّرِكَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلِ وَهُوَ لِعَضْلٍ مِنْ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ إذَا طَلَبَتْ الْإِنْكَاحَ مِنْ كُفْءٍ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّزْوِيجُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْعَضْلِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ فَإِذَا امْتَنَعَ فَقَدْ أَضَرَّ بِهَا وَالْإِمَامُ نُصِّبَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَتَنْتَقِلُ الْوَلَايَةُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ وَلَايَةُ الْإِنْكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِالْأَمْرِ فَلَا يَعْدُو مَوْضِعَ الْأَمْرِ كَالْوَكِيلِ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى إلَيْهِ لَا يَمْلِكُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوِصَايَةِ إلَيْهِ نَقْلَ وَلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ حَالَ الْحَيَاةِ كَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَكَذَا الْفُضُولِيُّ لِانْعِدَامِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوَلَايَةِ فِي حَقِّهِ أَصْلًا، وَلَوْ أَنْكَحَ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.

.فَصْلٌ: في الشَّهَادَةِ:

وَمِنْهَا الشَّهَادَةُ وَهِيَ: حُضُورُ الشُّهُودِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ.
أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ أَنَّ أَصْلَ الشَّهَادَةِ شَرْطُ جَوَازِ النِّكَاحِ أَمْ لَا.
وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ صِفَاتِ الشَّاهِدِ الَّذِي يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ.
وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ وَقْتِ الشَّهَادَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطُ جَوَازِ النِّكَاحِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ هُوَ الْإِعْلَانُ حَتَّى لَوْ عَقَدَ النِّكَاحَ وَشَرَطَ الْإِعْلَانَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ شُهُودٌ، وَلَوْ حَضَرَتْهُ شُهُودٌ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ الْكِتْمَانَ لَمْ يَجُزْ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الْمُدَايَنَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وَالْكِتَابَةُ لَا تَكُونُ لِنَفْسِهَا بَلْ لِلْإِشْهَادِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي بَاب الرَّجْعَةِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
(وَجْهُ) قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا يَمْتَازُ عَنْ السِّفَاحِ بِالْإِعْلَانِ فَإِنَّ الزِّنَا يَكُونُ سِرًّا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ عَلَانِيَةً وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ وَالنَّهْيُ عَنْ السِّرِّ يَكُونُ أَمْرًا بِالْإِعْلَانِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَلَوْ بِالدُّفِّ».
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَرُوِيَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الزَّانِيَةُ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ» وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ شَرْطًا لَمْ تَكُنْ زَانِيَةً بِدُونِهَا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ إلَى دَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا عَنْهَا وَلَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالشُّهُودِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِظُهُورِ النِّكَاحِ وَاشْتِهَارِهِ وَلَا يَشْتَهِرُ إلَّا بِقَوْلِ الشُّهُودِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي النِّكَاحِ مَا شُرِطَتْ إلَّا فِي النِّكَاحِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْدَفِعُ بِالظُّهُورِ وَالِاشْتِهَارِ لِكَثْرَةِ الشُّهُودِ عَلَى النِّكَاحِ بِالسَّمَاعِ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ وَبِالتَّسَامُعِ وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ الْعُقُودِ فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الشَّهَادَةِ هُنَاكَ لِدَفْعِ احْتِمَالِ الشُّهُودِ النِّسْيَانَ أَوْ الْجُحُودَ وَالْإِنْكَارَ فِي الثَّانِي إذْ لَيْسَ بَعْدَهَا مَا يُشْهِرُهَا لِيَنْدَفِعَ بِهِ الْجُحُودُ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الدَّفْعِ بِالشَّهَادَةِ فَنُدِبَ إلَيْهَا، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ فَنَقُولُ: بِمُوجِبِهِ لَكِنَّ نِكَاحَ السِّرِّ مَا لَمْ يَحْضُرْهُ شَاهِدَانِ فَأَمَّا مَا حَضَرَهُ شَاهِدَانِ فَهُوَ نِكَاحُ عَلَانِيَةٍ لَا نِكَاحَ سِرٍّ إذْ السِّرُّ إذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ سِرًّا قَالَ الشَّاعِرُ: وَسِرُّكَ مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِي وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ» لِأَنَّهُمَا إذَا أَحْضَرَاهُ شَاهِدَيْنِ فَقَدْ أَعْلَنَاهُ وَقَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ بِالدُّفِّ نَدْبٌ إلَى زِيَادَةِ عَلَانَةٍ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ- وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ-.

.فَصْلٌ: صِفَاتُ الشَّاهِدِ:

وَأَمَّا صِفَاتُ الشَّاهِدِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَهِيَ شَرَائِطُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ لِلنِّكَاحِ فَمِنْهَا: الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ الْمَجَانِينَ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَمَالِيكِ قِنًّا كَانَ الْمَمْلُوكُ أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا.
مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ أَصَّلَ فِي هَذَا أَصْلًا فَقَالَ: كُلُّ مَنْ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ يَصْلُحُ شَاهِدًا فِيهِ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوَلَايَةِ؛ لِأَنَّهَا تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْوَلَايَةُ هِيَ نَفَاذُ الْمَشِيئَةِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ وَلَايَةُ الْإِنْكَاحِ لِأَنَّهُ لَا وَلَايَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ وَلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ، إلَّا الْمُكَاتَبَ فَإِنَّهُ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ لَكِنْ لَا بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ بَلْ بِوَلَايَةِ مَوْلَاهُ بِتَسْلِيطِهِ عَلَى ذَلِكَ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَكَأَنَّ التَّزْوِيجَ مِنْ الْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَا يَصْلُحُ شَاهِدًا، وَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ كُلُّ مَنْ يَمْلِكُ قَبُولَ عَقْدٍ بِنَفْسِهِ يَنْعَقِدُ ذَلِكَ الْعَقْدُ بِحُضُورِهِ وَمَنْ لَا فَلَا، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ شَرَائِطِ رُكْنِ الْعَقْدِ، وَرُكْنُهُ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَلَا وُجُودَ لِلرُّكْنِ بِدُونِ الْقَبُولِ فَكَمَا لَا وُجُودَ لِلرُّكْنِ بِدُونِ الْقَبُولِ حَقِيقَةً لَا وُجُودَ لَهُ شَرْعًا بِدُونِ الشَّهَادَةِ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ قَبُولَ الْعَقْدِ بِأَنْفُسِهِمْ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ أَنَّ قَاضِيًا لَوْ قَضَى بِشَهَادَتِهِمْ يَنْفَسِخُ قَضَاؤُهُ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ أَصَّلَ فِيهِ أَصْلًا وَقَالَ: كُلُّ مَنْ جَازَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ عِنْدَ أَحَدٍ لَا يَجُوزُ بِحُضُورِهِ وَهَذَا الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ لِفَائِدَةِ الْحُكْمِ بِهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ فَإِذَا جَازَ الْحُكْمُ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ كَانَ الْحُضُورُ مُفِيدًا وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْبَعْضِ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَاضِيًا لَوْ قَضَى بِشَهَادَتِهِمْ يَنْفَسِخُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ.

.فَصْلٌ: في الْإِسْلَامِ:

وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَةَ فَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَةَ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَايَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَكَذَا لَا يَمْلِكُ الْكَافِرُ قَبُولَ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ قَضَى قَاضٍ بِشَهَادَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ يُنْقَضُ قَضَاؤُهُ.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ كَانَا مُوَافِقَيْنِ لَهَا فِي الْمِلَّةِ أَوْ مُخَالِفَيْنِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ بِشَهَادَةِ الذِّمِّيَّيْنِ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَصْلِنَا وَعَلَى أَصْلِهِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَإِنَّهُمَا احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ عَدَالَةُ الدِّينِ لَا عَدَالَةُ التَّعَاطِي لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ فِسْقَ التَّعَاطِي لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْإِشْهَادَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِالطَّرَفَيْنِ- طَرَفُ الزَّوْجِ وَطَرَفُ الْمَرْأَةِ- وَلَمْ يُوجَدْ الْإِشْهَادُ عَلَى الطَّرَفَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ فِي حَقِّهِ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فَلَمْ يُوجَدْ الْإِشْهَادُ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا سَمِعَا كَلَامَ الْمَرْأَةِ دُونَ كَلَامِ الرَّجُلِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ كَذَا هَذَا وَلَهُمَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} وَقَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا» وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَنَاكَحُوا» وَغَيْرِ ذَلِكَ مُطْلَقًا عَنْ غَيْرِ شَرْطٍ، إلَّا أَنَّ أَهْلَ الشَّهَادَةِ وَإِسْلَامَ الشَّاهِدِ صَارَ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَمَنْ ادَّعَى كَوْنَهُ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَرُوِيَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ» وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ ظَاهِرٌ وَهَذَا نِكَاحٌ بِشُهُودٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِعْلَامِ وَالْبَيَانِ، وَالْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ الْإِعْلَامِ وَالْبَيَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ وَالْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ، وَقَدْ وُجِدَ إلَّا أَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ خُصَّتْ مِنْ عُمُومِ الْحَدِيثِ فَبَقِيَتْ شَهَادَتُهُ لِلْمُسْلِمِ دَاخِلَةً تَحْتَهُ؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوَلَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْكَافِرُ الشَّاهِدُ يَصْلُحُ وَلِيًّا فِي هَذَا الْعَقْدِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ وَيَصْلُحُ قَابِلًا لِهَذَا الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ فِيهِ صَلُحَ شَاهِدًا.
وَكَذَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ هَذِهِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَلَوْ قَضَى لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فَيَنْفُذُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ ضَعِيفٌ وَلَئِنْ ثَبَتَ فَنَحْمِلُهُ عَلَى نَفْيِ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْعَقْدُ خَلَا عَنْ الْإِشْهَادِ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَنَقُولُ: شَهَادَةُ الْكَافِرِ إنْ لَمْ تَصْلُحْ حُجَّةً لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَتَصْلُحُ حُجَّةً لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا لَا تَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْوَلَايَةِ وَفِي جَعْلِهَا حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَاهَا حُجَّةً لِلْمُسْلِمِ مَا كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْكَافِرِ، وَهَذَا جَائِزٌ عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا قَوْلَهُ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لَكِنَّ حُضُورَهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: حُجَّةً لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِحُضُورِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَلْ يَظْهَرُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ عِنْدَ الدَّعْوَى؟ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ لِلنِّكَاحِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُ مُنْكِرٌ لَا يَظْهَرُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةً فَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَظْهَرُ سَوَاءً قَالَ الشَّاهِدَانِ: كَانَ مَعَنَا عِنْدَ الْعَقْدِ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ أَوْ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَظْهَرُ كَمَا قَالَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَظْهَرُ سَوَاءً قَالَا: كَانَ مَعَنَا رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ أَوْ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَعَلَى إثْبَاتِ فِعْلِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ شَهِدَا عَلَى نِكَاحٍ حَضَرَاهُ فَقَطْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى نِكَاحٍ فَاسِدٍ عِنْدَهُ وَإِنْ شَهِدَا عَلَى أَنَّهُمَا حَضَرَاهُ وَمَعَهُمَا رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ إنْ كَانَتْ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ لَكِنْ فِيهَا إثْبَاتُ فِعْلِ الْمُسْلِمِ فَيَكُونُ شَهَادَةً عَلَى مُسْلِمٍ فَلَا تُقْبَلُ كَمُسْلِمٍ ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ ذِمِّيٍّ فَجَحَدَ الذِّمِّيُّ دَعْوَى الْمُسْلِمِ وَزَعَمَ أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدُهُ فَأَقَامَ الْمُسْلِمُ بِشَاهِدَيْنِ ذِمِّيَّيْنِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدُهُ وَقَضَى لَهُ بِهِ عَلَى هَذَا الذِّمِّيِّ قَاضٍ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهَا إثْبَاتُ فِعْلِ الْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ وَهُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي لَمْ تُقْبَلْ كَذَا هَذَا.
(وَجْهُ) الْكَلَامِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي جَانِبِ الِاعْتِقَادِ أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوَلَايَةِ، وَلِلْكَافِرِ وَلَايَةٌ عَلَى الْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدَانِ وَقْتَ التَّحَمُّلِ كَافِرَيْنِ وَوَقْتَ الْأَدَاءِ مُسْلِمَيْنِ فَشَهِدَا لِلزَّوْجِ فَعَلَى أَصْلِهِمَا لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا كَافِرَيْنِ تُقْبَلُ فَهاَهُنَا أَوْلَى وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: تُقْبَلُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُقْبَلُ فَمَنْ قَالَ: تُقْبَلُ نَظَرَ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَمَنْ قَالَ: لَا تُقْبَلُ نَظَرَ إلَى وَقْتِ التَّحَمُّلِ.

.فَصْلٌ: وَمِنْهَا سَمَاعُ الشَّاهِدَيْنِ كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا:

حَتَّى لَوْ سَمِعَا كَلَامَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ أَوْ سَمِعَ أَحَدُهُمَا كَلَامَ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ كَلَامَ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَعْنِي حُضُورَ الشُّهُودِ شَرْطُ رُكْنِ الْعَقْدِ، وَرُكْنُ الْعَقْدِ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِيمَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَهُمَا لَا تَتَحَقَّقُ الشَّهَادَةُ عَنْ الرُّكْنِ فَلَا يُوجَدُ شَرْطُ الرُّكْنِ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ-.

.فَصْلٌ: في الْعَدَدِ:

وَمِنْهَا الْعَدَدُ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَقَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ» وَأَمَّا عَدَالَةُ الشَّاهِدِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ عِنْدَنَا فَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْفَاسِقَيْنِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ، وَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِحُضُورِ مَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ يُرَجَّحُ فِيهِ جَانِبُ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَالرُّجْحَانُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعَدَالَةِ، وَلَنَا أَنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطٍ ثُمَّ اشْتِرَاطُ أَصْلِ الشَّهَادَةِ بِصِفَاتِهَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا ثَبَتَتْ بِالدَّلِيلِ فَمَنْ ادَّعَى شَرْطَ الْعَدَالَةِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ؛ وَلِأَنَّ الْفِسْقَ لَا يَقْدَحُ فِي وَلَايَةِ الْإِنْكَاحِ بِنَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي شَرَائِطِ الْوَلَايَةِ.
وَكَذَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَوْ حَكَمَ لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَكَانَ مِنْ أَهْلِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ.
وَالْفِسْقُ لَا يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّةِ التَّحَمُّلِ، وَإِنَّمَا يَقْدَحُ فِي الْأَدَاءِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْأَدَاءِ لَا فِي الِانْعِقَادِ، وَقَدْ ظَهَرَ حَتَّى لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا إلَّا إذَا تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ.
وَكَذَا كَوْنُ الشَّاهِدِ غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ فَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ قَدْ تَابَ بَعْدَ مَا حُدَّ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتُبْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَنَا عَلَى التَّأْبِيدِ خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ يَقْدَحُ فِي الْأَدَاءِ لَا فِي التَّحَمُّلِ؛ وَلِأَنَّهُ يَصْلُحُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ وَيَصِحُّ الْقَبُولُ مِنْهُ بِنَفْسِهِ وَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ، وَإِنْ حُدَّ وَلَمْ يَتُبْ أَوْ لَمْ يَتُبْ وَلَمْ يُحَدَّ يَنْعَقِدُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ.
وَكَذَا بَصَرُ الشَّاهِدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِ الْأَعْمَى لِمَا ذَكَرْنَا؛ وَلِأَنَّ الْعَمَى لَا يَقْدَحُ إلَّا فِي الْأَدَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي وَلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَلَا فِي قَبُولِ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ وَلَا فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ.
وَكَذَا ذُكُورَةُ الشَّاهِدَيْنِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ، وَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِحُضُورِ رَجُلَيْنِ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ.
وَكَذَا إسْلَامُ الشَّاهِدَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي نِكَاحِ الْكَافِرَيْنِ فَيَنْعَقِدُ نِكَاحُ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِشَهَادَةِ كَافِرَيْنِ وَكَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ سَوَاءً اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إسْلَامُ الشَّاهِدِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْكَافِرِ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ أَيْضًا وَالْكَلَامُ فِي الْقَبُولِ نَذْكُرهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَنَتَكَلَّمُ هاهنا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِشَهَادَتِهِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَلَا عَدَالَةَ مَعَ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ وَأَفْحَشُهُ فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ عَدْلًا فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ، وَلَنَا قَوْلُهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَقَوْلُهُ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ» وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، وَالْكُفْرُ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ شَاهِدًا لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ وَلَا قَابِلًا لِلْعَقْدِ بِنَفْسِهِ، وَلَا جَوَازَ لِلْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَكَذَا كَوْنُ شَاهِدِ النِّكَاحِ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِحُضُورِهِ، وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ أَصْلًا كَمَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ مِنْهَا، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْعَقِدُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي بَابِ النِّكَاحِ لِلْحَاجَةِ إلَى صِيَانَتِهِ عَنْ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ، وَالصِّيَانَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبُولِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ لَا تَحْصُلُ الصِّيَانَةُ، وَلَنَا أَنَّ الِاشْتِهَارَ فِي النِّكَاحِ لِدَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا لَا لِصِيَانَةِ الْعَقْدِ عَنْ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ، وَالتُّهْمَةُ تَنْدَفِعُ بِالْحُضُورِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ، عَلَى أَنَّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ يَحْصُلُ بِسَبَبِ حُضُورِهِمَا وَإِنْ كَانَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَظْهَرُ وَيَشْتَهِرُ بِحُضُورِهِمَا، فَإِذَا ظَهَرَ وَاشْتَهَرَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ فَتَحْصُلُ الصِّيَانَةُ.
وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ لَا مِنْهَا أَوْ ابْنَيْهَا لَا مِنْهُ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ وَالْإِنْكَارِ يُنْظَرُ إنْ وَقَعَتْ شَهَادَتُهُمَا لِوَاحِدٍ مِنْ الْأَبَوَيْنِ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الِابْنِ لِأَبَوَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَشَهَادَتَهُمَا عَلَيْهِ مَقْبُولَةٌ.
وَلَوْ زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ مِنْ رَجُلٍ بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ وَهُمَا أَخَوَا الْمَرْأَةِ فَلَا يُشَكُّ أَنَّهُ يَجُوزُ النِّكَاحُ وَإِذَا وَقَعَ الْجُحُودُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَعَ الْجَاحِدِ مِنْهُمَا أَيُّهُمَا كَانَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى الْأَبِ فَتُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَعَ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا أَيُّهُمَا كَانَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقْبَلُ فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فَقَالَ: إذَا كَانَ الْأَبُ مَعَ الْمُنْكِرِ فَشَهَادَتُهُمَا تَقَعُ عَلَى الْأَبِ فَتُقْبَلُ، وَإِذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي فَشَهَادَتُهُمَا تَقَعُ لِلْأَبِ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ كَانَ مِنْ الْأَبِ فَلَا تُقْبَلُ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَ إلَى الْمَنْفَعَةِ وَعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ فَقَالَ: إنْ كَانَ لِلْأَبِ مَنْفَعَةٌ لَا تُقْبَلُ سَوَاءً كَانَ مُدَّعِيًا أَوْ مُنْكِرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْفَعَةٌ تُقْبَلُ.
وَهَاهُنَا لَا مَنْفَعَةَ لِلْأَبِ فَتُقْبَلُ وَالصَّحِيحُ نَظَرُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْقَبُولِ هُوَ التُّهْمَةُ، وَإِنَّهَا تَنْشَأُ عَنْ النَّفْعِ، وَكَذَلِكَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ: إنْ كَلَّمَك زَيْدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ قَالَ الْعَبْدُ كَلَّمَنِي زَيْدٌ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى فَشَهِدَ لِلْعَبْدِ ابْنَا زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُمَا قَدْ كَلَّمَهُ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ سَوَاءً كَانَ زَيْدٌ يَدَّعِي الْكَلَامَ أَوْ لَا يَدَّعِي؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِزَيْدٍ فِي الْكَلَامِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ زَيْدٌ يَدَّعِي الْكَلَامَ لَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدَّعِي تُقْبَلُ وَكَذَلِكَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَنْ تَوَكَّلَ عَنْ غَيْرِهِ فِي عَقْدٍ ثُمَّ شَهِدَ ابْنَا الْوَكِيلِ عَلَى الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ حُقُوقُ الْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ سَوَاءً ادَّعَى الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يَدَّعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ يَدَّعِي لَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا تُقْبَلُ.